مجلس مرافئ ساكنة حروف تتساقط لتروي خضار قلوبكم

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-11-2023, 02:04 AM   #1
عضو مبدع

الصورة الرمزية مُبهِرة

 رقم العضوية :  140614
 تاريخ التسجيل :  05-11-2023
 المشاركات :  582
 الجـنـس :  أنثى
 عدد النقاط :  10
 قوة التقييم :  مُبهِرة is on a distinguished road
 اخر مواضيع » مُبهِرة
 تفاصيل مشاركات » مُبهِرة
 أوسمة و جوائز » مُبهِرة
 معلومات الاتصال بـ مُبهِرة

افتراضي السعادة في الشعر "قصيدة (مع الهجير)


السعادة في الشعر
"قصيدة (مع الهجير) للشاعر الدكتور عدنان علي النحوي"



ما أكثر المذاهب الفلسفية في الأدب بحثاً عن السعادة وهي غاية السلوك الأخلاقي..

إن موضوع السعادة؛ من الموضوعات الإنسانية الكبرى التي اندفع بعض الباحثين عنها ليجدها في العروض الزائلة..

قزم يظن السعادة في العملقة

وعائل يظن السعادة في الغنى

ودميم يظن أن السعادة في الجمال

ووضيع يظن أن السعادة في الجاه

وآخر يظن السعادة في الجنس أو في كأس...

أما الشاعر المسلم فأين وجد السعادة؟



يجيب عن هذا السؤال الشاعر الدكتور عدنان علي النحوي:

مع الهجير [1]

حنّ الجمالُ إلى الجمال
وتواثبت صور الدلال
رباه! كم درجت خطا
ي على المروج على التلال
ولكم هُرعت إلى الجنا
ن وربوة وندى الطلال
ولكم هربت من الهجي
ر أغيب في برد الظلال
ولممت من بين الجدا
ول همستي وصدى خيالي
وجمعت من بين الحصى
زُهر الجواهر واللآلي
وقطفت من حلو الثما
ر هجعت في فيء الدوالي
وركضت أمعن في الحقو
ل وبين زاهرة التلال
ونزلت ودياناً وسا
بقت الخطا قمم الجبال
أجري وأوهامي وأح
لامي تلفت بالسؤال
وأظل ألهث خلفها
شوقاً إلى دنيا الجمال
دنيا الحقيقة من يفتح
ها مضمخة الجلال
وأمد من كفيّ أب
حث عن رؤى بين الليالي
وأمزق الدرب الطوي
ل خطا مشتتة الأمالي
وأسير والأيام تر
كض والمنى تجري حيالي
وتغيب أشباح وتط
وى بين أجفاني الليالي
وتفر أحلامي وتُف
لت من يدي تلك اللآلي
وأكاد أمسك بالطيو
ف فتختفي وأرى خيالي
يا حسرتاه فكم جري
ت وراء كاذبة النوال
وأصب من عرقي وأد
فع لهفتي بخطا عجال
كم قيل لي دنيا الحقيق
ة في المروج مع الظلال
ومع الجِنان مع الورو
د مع الشواهق والعوالي
ومع الرغاب الماجنا
ت مع الهوى واهاً لحالي
ونظرت في كفيّ َفا
رغتين والدنيا حيالي
وأكاد أجمعها فول
ت كالطيوف إلى زوال
قد لوثوا طهر الجما
ل وروعوا خفر الغزال
داسوا على حلو الورو
د على الجِنان على اللآلي
سحقوا الأزاهير التي
رويتها بدمي ومالي
سرقوا الجواهر والكنو
ز وكل حالية وغالي
جفت فروعك يا جِنا
ن وأجدبت خضر التلال
وتساقطت دنيا الخريف
على التراب على الرمال
وكأنها وهم السرا
ب كأنها ومض الخيال
ورجعت في حمى الهجي
ر وبين أطياف وجال
ويكاد يقتلني الظما
وتكاد تطرحني رحالي
قدماي ترتجفان منهك
تين من طول ارتحالي
وتكاد تغلبني الشكا
ة من الضياع من الملال
ورميت يا رباه آ
مالي على وهن الكلال
وتركت خلفي كل أح
لامي وأشباح الضلال
وتركت أوهام السرا
ب ركام أيامي الخوالي
ورجعت أبحث في الحقي
قة في الطهارة في الجمال
فوجدتها في النفس في الأ
عماق في شرف الفعال
في رفة الإيمان في الأن
داء في عقبى مآل


تشريح النص أم تذوق النص؟

ماذا نسمي عملنا في هذا النص؟ هل نسميه: تشريح النص؟ أم تذوق النص ودراسته؟.

التسمية الأولى، تسمية البنيوية والحداثة، أما التسمية الثانية فهي تسمية المدرسة النقدية العربية الإسلامية.

إن الحداثة بهذه التسمية (تشريح النص) تفترض أن النص جثة على طاولة التشريح في قاعة الموتى، فما على الطبيب إلا أن يأتي بمباضعه وسكاكينه ويبدأ بالنص تجريحاً وتقطيعاً حتى يصبح أشلاء مبعثرة، ليكتشف هذا الطبيب – الأديب – جماليات هذا الجسم، ومن ثم يتوصل إلى الفيروس الذي أدى إلى قتل صاحبه -موت المؤلف- حسب العبقرية التي صدرتها لنا نظرية البصل - التفكيكية - فإذا كان في المجتمعات منظمات إرهابية؛ فإن في الآداب منظمات إرهابية أيضاً هذه المدرسة الإرهابية إحداها وعنوانها: تشريح النص؛ فهي تقتل النص وتقتل صاحبه، وليس هذا هو الأسوأ، فقد يسمع الأسوأ منه، وهو الهجوم على الثوابت والمقدسات.



إن التسمية التي نختارها نابعة من أصالتنا نختار لها العنوان التالي:

تذوق النص ودراسته:

التذوق: أرأيت بائع العسل وهو يقول لك: هذا عسل سدر، وهذا عسل الملكة تذوق منه، وبائع الفاكهة يقول: هذا تفاح الشام، وهذا المشمش الحموي وهذا دراق أبو صرة، تذوق من هذه الفاكهة، منها الحلو، ومنها الحامض ومنها ما بين بين، أرأيت ثوب الصوف الأبيض بين يدي الصباغ يشرّبه اللون المختار؟ كذلك تذوق النص؛ حيث يتشرب دارس النص روح النص، إنها ملكة، قوامها الموهبة تنمو بالمران والدربة، وبهذا التذوق استطاع ابن سلّام أن يفرق بين الشعر الأصيل لدى الشاعر وبين الشعر المنحول، بالتذوق نستطيع أن نحيا مع النص وأن نفهمه في رحلتنا معه.



رحلتنا مع النص: قراءة أولية:

قرأنا نص مع الهجير لشاعرنا الدكتور عدنان النحوي وتذوقناه، عشنا معه في خواطرنا وأفكارنا وعواطفنا، وسرحنا مع الشاعر في تلك الرؤى المتلاحقة، في صورها الملونة، وأساليب التعجب والنداء مراوحاً بين أساليب الخبر والإنشاء، بدءاً من حنينه الذي أسقطه على الجمال في حنينه إلى الجمال، وفي تواثب صور الدلال، وفي تنقل خطوه على المروج والتلال، وعندما هُرع إلى الجِنان، فراراً من الهجير إلى برد الظلال، ململماً الهمسة وصدى الخيال..



ونحن في رحلتنا مع النص ترانا نتوقف متلفتين إلى سؤال الشاعر؟ الشاعر صامت، وأحلامه هي التي تتلفت، وأحلامه هي التي تتساءل، ولكن ما هذا السؤال؟

إنه سؤال شغل تفكير الشاعر، شغل عقله الظاهر والباطن، الشعور وما تحت عتبة الشعور، سؤال شغل قبله فلاسفة الشعراء، وشعراء الفلاسفة: أين الحقيقة؟ هنا ينصب اللهاث والجري والعناء على الجواب، ولكن أين الجواب؟ أين الحقيقة؟ يمد الشاعر كفه..

يمزق الدرب الطويل.. الأيام تركض.. والشاعر يركض... أحلام تحجرت.. آمال تجوهرت.. إذا بها سراب في صحراء الحياة.

وحينما استيقظ وعي الشاعر، وفتح عيني بصيرته على واقعه، أدرك أن ما كان من لهاث مخلفاً الهجير إلى برد الظلال وخضرة المروج والمياه والتلال وبسمة الآمال.. ليس هذا هو الحقيقة، بل كان سراباً في سراب وما أكثر ما قيل للشاعر: إن الحقيقة تسكن الجِنان

مع الكؤوس والقيان..

والشاعر ليس قاصراً عن أن تطول يداه هذه الرغبات كلها لو أراد، لكن هذه الرغائب فرت من يديه... لأنها سراب.



وانقضى الربيع بأزهاره، والصيف بثماره، وجاء الخريف، خريف الآمال والأحلام، فبخر تلك الأماني الخضراء.

وبعد رحلة العناء، فاء الشاعر إلى نفسه وهو ما يزال دائباً بحثاً عن الحقيقة حتى وجدها. وتتلهف نفوسنا إلى معرفة المكان الذي وجد شاعرنا الحقيقة فيه.

لقد وجد الحقيقة في نفسه، وجد الشاعر الحقيقة في نفس الإنسان، في داخله، في ذاته، في كينونته، فهي فيه وليست خارجة عنه؛ ليست في عرض الحياة من مال أو جاه أو كأس وغانية وقصور ومزارع وبساتين..

وجد الشاعر الحقيقة أو سر السعادة، في النفس الإنسانية، وجد السعادة في الإيمان بالله سبحانه وتعالى يحدوه هذا الإيمان إلى الأفعال الخيرة النبيلة الشريفة.



التجربة الشعورية، والقيمة التعبيرية:

بعد أن تذوقنا النص، وقمنا برحلة معه، نتهيأ الآن إلى أن نبحر مع التجربة الشعورية التي فجرت النص في قيمته التعبيرية.



التجربة الشعورية:

لقد فجر النص فيض الحنين، حنين الجمال إلى الجمال، ونما هذا الكائن الحي نمواً طبيعياً، وتنامى إلى أن استوى ناضجاً، وهو يبحث عن السعادة حتى وجدها في الإيمان بالله تعالى.

فالنص وحدة متكاملة، بدأ البحث مع الهجير، هجير الكدح في الحياة لجمع حطامها، أم هجير العقل وهجيراه في البحث الفلسفي العميق عن السعادة، ولطالما أشقى هذا السؤال عقولاً كثيرة؛ بعضها ظن أن السعادة في الحب،في أوربا كثر الانتحار عقب صدور كتاب (آلام فيرتر) وكتاب (رفائيل) لجوتة، خلال ثلاثة أشهر من صدور هما انتحر أكثر من سبعين عاشقاً..

وانتحر آخرون لفساد بضاعتهم التي ألقيت في البحر، انتحر التاجر لأنه ظن أن سعادته في المال وقد خسر المال وانتحر المحب لأنه خسر الحبيب وقد ظن أن السعادة عند الحبيب, ولو علم الذي يريد الانتحار أن السعادة في داخل النفس لا خارجها لما انتحر، فالعرض زائل؛ المال يعوض، والحب؟! يا له من يلمع! ذلك الشقاء العذب أو عذوبة الشقاء؟ وما أكثر من طلق محبوبته في الشرق!وما أكثر من قتل محبوبته في الغرب! وهل كل البيوت تبنى على الحب؟ وهل يأتي الحب قبل الزواج؟ أم بعده؟ المهم أن السعادة مع الإنسان الذي ضيعها، كما قال شاعرنا، وقد أدرك هذا إيليا أبوماضي فقال:

إن التي ضيعتها كانت معي

إن هذه القيمة الشعورية قد صبها شاعرنا عدنان في قيمة تعبيرية، فما صفاتها؟



القيمة التعبيرية:

حن الجمال إلى الجمال:

قام الشاعر بإسقاط جمالي؛ يعزف على وتر الحنين، والحنين من صفات القلوب، سواء صدر من الإنسان أو الحيوان أو الطير، فابن الرومي يحن إلى ولده محمد المفجوع به، ويذكره ما حنت النيب في نجد، وقال القطامي التغلبي[2]

أحن إلى تلك المنازل كلما ♦♦♦ غدا طائر في أيكه يترنم



والحنين باب في الشعر العربي والإسلامي والإنساني لا أرق منه ولا ألطف ولا أعذب، يذكر الشاعر الحنين في شفافية ندية، ويشبهه بالإنسان الذي يحن إلى شبيهه على طريقة الاستعارة المكنية، ذكر المشبه وهو الحنين، وحذف المشبه به وهو الإنسان، ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو حن، وهذا هو القرينة الدالة عليه.

وتواثبت صور الدلال: إن صيغة: تواثب (تفاعل) تدل على المشاركة، فمع من تتشارك صور الدلال في وثباتها؟. ربما تدل هذه الصيغة على تفاعلها مع ذاتها بحركة ديناميكية داخل نفس الشاعر الموارة بالحركة والاضطراب، تلك الحركة الاستشرافية نحو هذا الجمال.

كما تدل هذه الصيغة (تفاعل) على بدء الفعل وتتابع الحدث كما تقول: تبادرت الفرسان على الميدان، إي بدأت بالحركة المتلاحقة.



دوالُّ النص:

إن النظام اللغوي يتالف من مجموعة دوالّ.

الدالَّة الأولى: المستوى الصوتي:

وهو (حن) نجد أن النون مدغمة في مثيلتها فيشكل

الحرفان المدغمان مع بعضهما غنة محببة كأنها عزف الريح في يوم المطر.



الدالة الثانية: المستوى الصرفي:

وهو في (تواثبت) على وزن تفاعلت. وهو في علم الصرف، وقد أشبعها دراسة ابن جني في. كتابه العظيم (الخصائص).



الدالة الثالثة: المستوى الدلالي:

وهو التواثب وقد عرفنا أن معناه المشاركة في الوثوب أو المبادرة، ولو قال: وثبت لضعف الفعل، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.



الدالة الرابعة: المستوى النحوي:

الجمال هو الذي حن، فهو الفاعل، إذاً فأين الشاعر؟ الشاعر هو باني النص، وقد قام بإسقاط خيالي دلالي ليبدع هذه الصورة البلاغية الرائعة، وهي أن الجمال تجوهر بصورة إنسان، الجمال مجرد والإنسان محسوس صور المجرد بالمحسوس.



الدالة الخامسة: المستوى الكتابي:

وهو الذي جرى فيه رسم الحروف وفقاً لمنطوقها؛ أي أنها تمثل الأصوات المنطوقة تمثيلاً مطابقاً أو أن الحروف انعكاس عن الأصوات.



الدالة السادسة: المستوى الأسلوبي:

وهو الذي يجمع الدوال كلها بنسق معين متناسق.



مفردات النص:

وهو أسلوب سلس، لا تنافر بين حروف الألفاظ، ولا تعاظل في التركيب كلفظة الهعخع أو هذا التركيب للمتنبي:

(عش ابق اسم سد جد قد مر انه فه تُسَل)

فلو قرأت هذا الشطر قراءة عادية لما فُهم معناه. فنسق هذه الدوال مما يترنم الإنسان بإنشاده لعذوبة الأسلوب فيه.



الإيقاع والموسيقا:

القصيدة من البحر الكامل؛ من البحور الصافية ذات التفعيلات الموحدة الإيقاع: متفاعلن، ولكنه جاء هنا مجزوءاً مرفلاً: متفاعلن متفاعلاتن.

اختزل التفعيلة الثالثة ورفّل الثانية، ولهذا دلالته النفسية والبيانية، فالشاعر مستغرق في تجربته الشعورية، فاضت من وجدانه شعراً موحد الإيقاع، جاءت الدفقة الشعورية نظرة تأملية، استخدم لها الوحدة اللغوية (حن) وحرف النون متصل نطقه بآلية التطريب بالغنة مع إدغام الحرفين، وهذه اللفظة لم يبحث عنها الشاعر، وإنما وردت لاشعورياً رشحها له عقله الباطن ليتناسب الحنين مع ما يعبر عنه من حروف تعكس هذا المعنى، فالمعنى كما يقول الجرجاني في قلب الشاعر وجاءت الألفاظ مناسبة لها كما قال الأخطل:

لا يعجبنك من خطيب خطبة
حتى يكون مع الكلام أصيلا
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلا


لكن هذه الطاقة الشعورية الكامنة، يمكن أن تستوعبها طاقة بيانية محددة، وهي مجزوء الكامل، لكن المخزون العاطفي الوجداني في نفس الشاعر أعطى الدفقة الشعورية بعداً آخر، سببه حرارة العاطفة وقوتها وعمقها وشدة تدفقها، كان يمكن أن تكون التفعيلة الثانية كافية كالشعر المجزوء في هذا البحر في قول الشاعر[3]:

بكت الحمامة لوعة
سحَراً فسالت ادمعي
أنا في الصحارى مُبعد
ما الكون حولي؟ لا أعي


أو كان يمكن أن تكون التفعيلة بزيادة حرف واحد كأن يقول مثلاً:

حن الجمال إلى الجمالْ ♦♦♦ وتواثبت صور الدلالْ

وتكون التفعيلة هنا: متفاعلن متفاعلان

ولكنها جاءت في القصيدة: متفاعلاتن، بزيادة حرفين، وتعليل ذلك ما نلاحظه على ساحل البحر من موجة تتهادى على الساحل، وقبل أن تتناهى تأتيها موجة أقوى تدفعها وتسندها وتعززها وتزيد من قوتها هذا هو تعليل الترفيل في نظرنا.



روح النص:

النص كائن حي له روح، وليس بجثة محنطة، يمكن أن نسمي (الشكل) الثوب أو الهيكل.

أما المعاني أو المضمون فيمكن أن نسميه: روح النص، وإذا كنت رومنسياً يمكن أن تطلق مسمى (الكأس) على الشكل و(الشراب) على المعنى الذي سكب في الكأس.

حنّ: حاء ونون مشددة، نتصور إيحاء هذه اللفظة ومعناها وما يشي به في النفس عند تذوق اللفظة واستحضار دواعيها، هذا التداعي له مهمة، فبعد أن نستشعر الحنين في داخل أنفسنا، حنين الحبيب إلى الحبيب، حنين الجمال إلى الجمال.. بعد هذا التداعي نجد في أنفسنا الراحة، وذلك لأن حنين الجمال إلى الجمال قد أثار في داخلنا عنصر الجمال وذلك من الإحساس بالحنين، نراه قد تولد في أنفسنا أو بعثه من جديد من إيحاء تجربة لها رصيد في أنفسنا، إن هذا الإيحاء من مهماته أنه يعيد استحضار تجربة مرت بنا يعرضها أمام مخيلتنا لنتقمص تجربة النص الذي هو بين أيدينا فبعد أن تذوقناه، نغدوا نحن شركاء فيه، مع الشاعر وكأننا نحن أصحاب النص وذلك لقوة انطباع هذا الإحساس في أنفسنا، ولقد بكى أستاذنا الدكتور عبد الكريم الأشتر على مدرج جامعة دمشق وهو يلقي نصاً حزيناً. نصبح شركاء في عاطفة الشاعر؛ ما أضحكه أضحكنا، وما أبكاه أبكانا.



ثم تتراقص أمام مخيلتنا التصويرية هذه الصور وأي صور؟ إنها صور الدلال، الدلال فتاة فتانة صورها الشاعر بريشة فنان على سبيل الاستعارة المكنية، وجعلها ترقص بل تتراقص وتثب بل تتواثب ليقوي الفعل.

ويقول الشاعر: رباه؛ في علم النفس أن الألفاظ لها تأثير بالمشاعر، إن حرف الهاء وقبله ألف ممدودة عندما ينطقه الإنسان يشعر بالارتياح النفسي، فلما جاءت اللفظة (رباه) بهذا السياق شعرنا أن هناك ما يشبه المشكلة العاطفية، أو الموضوع العاطفي لدى الشاعر وأن هذه النفسية المضطرمة قد أطلقت هذه اللفظة لا شعورياً بغية الارتياح النفسي، هذه المشكلة النفسية التي هي موضوع النص كله، هذا الموضوع قد بدأ بلحظة تفجير مفتاحه الحنين، ثم جاءت الضراعة والشكوى في صيغ كثيرة في صيغة التكثير:

ولكم هُرعت إلى الجنان!

ولكم هربت من الهجير!



ونتوقف عند هذه الصورة:

ولممت من بين الجداول ♦♦♦ همستي وصدى خيالي

لملم الشاعر همسته من أين؟ لملمها من بين الجداول، في الأدب العربي شعراء بعضهم أوحى بما يقترب من هذا المعنى كبدوي الجبل، ومن باب التداعي ذكرت له هنا بيته الذي يقول فيه:

لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدُب ♦♦♦ ورحت أحضرها في الخافق التعب

فهل نقول: هناك تواصل بين الشاعرين؟ بل نقول: هناك تصاقب، أو كما يقول نقادنا القدامى (حذو النعل على النعل) ومثل هذا ما حصل بيني وبين أخي الدكتور عبد الرحمن العشماوي، فقد كنت في الإمارات في مدينة العين، زارني وفد الشباب الإسلامي ودعوني إلى حفل أقيم للإشادة بالانتفاضة الإسلامية المباركة فقلت قصيدة عنوانها (لغة الحجارة) وبعد عودتي إلى الرياض كان صديقي رفيق النتشة سفير فلسطين في الرياض فدعاني إلى حفل مشابه لذاك وكنا ثمانية شعراء من بينهم العشماوي إذا به يقول: وهذه قصيدتي بعنوان (لغة الحجارة) ولم يسمع مني ولم أسمع منه لأن قصيدتي نشرت في جريدة القبس بعد ذلك. لملم شاعرنا همسته من بين الجداول، كما انه لملم صدى خياله، يا للفن المبدع! ويا لهذا التصوير الفني المحلق.



ويتنامى الحدث، إنه ينمو ويكبر.. وفيه لولب من الصور الرشيقة الخلابة، شاعرنا:

جمع الجواهر واللآلئ.

قطف من حلو الثمار

هجع في فيء الدوالي

ركض إلى التلال

نزل الأودية،

وجرى.. وأوهامه تجري أمامه.

ويظل يلهث وهو يجري وهي تجري

ولكن إلى أين؟

(شوقاً إلى دنيا الجمال) وماذا في دنيا الجمال؟ الحقيقة.

مد الشاعر كفيه بحثاً عنها.

مزق الدرب الطويل.

ويسير والأيام تركض.

وتفر الأحلام.

وتفر اللآلئ وكأنها أضحت لآلئ المتنبي في شعب بوان حيث قال:

وألقى الشرق منها في ثيابي دنانيراً تفر من البنان

ولكن دنانير المتنبي من ضياء الشمس، ولآلئ شاعرنا من بنات الأحلام.

ويكاد يمسك بهذه الآمال التي ترفرف على هدبيه أحلامها، وترف على أخيلته...

يا حسرتاه.



هكذا جاءت اللفظة تخفي وراءها عالماُ من معاني المعاناة والإحساس بها، لا أمرّ منه ولا أبلغ في ارتكاس الآمال وما خلّفها من آلام.

أدرك الشاعر أن المروج والزهر ومظاهر الحضارة التي تعب الشاعر في السعي لحيازتها ظناً منه أنها هي سر السعادة، إذا بأحلامه هذه كلها تتبخر، وبدأت المأساة، وهي خيبة الأمل في مظاهر الحضارة أن تكون السعادة ساكنة فيها ولكن..

وتظهر هذه الآثار السلبية على كيان الشاعر، فقد تصبب عرقاً وعاد من حيث بدأ، فإذا لم يجد الشاعر الحقيقة في مظاهر الحياة الخادعة، فليبحث عنها في مجال آخر عله يجدها هناك.



ربما كان طريق الهوى هو الطريق مع الرغاب الماجنات وماذا لاقى العقلاء في طريق الهوى؟ يجيب الأخطل الصغير في قصيدته (المسلول) عن هذا السؤال:

هذا قتيل هوى ببنت هوى

فإذا مررت بأختها فحُدِ



طريق الهوى تلوث لطهر الجمال وجناية على الصبا، وتحقير لكل القيم الجمالية في الطبيعة، وفي النفس الإنسانية،حتى إن الجنان قد تنكرت للجمال بعد أن رحل عنها ربيعها، فصوحت الواحة، وغابت تلك الظلال والأفياء... وكأن عالم الجمال كان وهماً من سراب، وحل الهجير، وحمى الهجير، ونار الهجير

وفي كل محطة من محطات الحياة يتوقف الشاعر بعد غياب الأمل وتعب الطريق فيصرخ مستنجداً مستغيثاً ربه سبحانه وتعالى: رباه..

ويومض قبس في الظلام، لقد أومض في نفس الشاعر، انبجس من أعماقه؛ إنه الإيمان. الإيمان بالله تعالى فهو السعادة.

يا لها من قصة شعرية تقمص فيها الشاعر الإنسان في رحلة الإيمان، فطاف في أرجاء ما يرتاده الناس بحثاً عن السعادة فلم يجدها خارج النفس الإنسانية.



الوحدة العضوية في النص:

هل النص وحدة عضوية؟ أم يتخلله الاستطراد على طريقة القصيدة النابغية المعلقة في عرف من عدها مع المعلقات وهي القصيدة الدالية ومطلعها:

يا دار مية بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأبد



وهي النموذج للاستطراد في القصيدة العربية، أم أن قصيدة شاعرنا موحدة الموضوع؟

يبدأ النص الإخبار عن الجمال في حنينه إلى شبيهه، وفي تواثب صور الدلال ثم يأتي الأسلوب الإنشائي التعجبي في تنامي الحدث وهو يستمر بأسلوب يشبه السرد القصصي بأسلوب درامي يشبه المنولوج أو، حديث النفس؛ تغلغل في هذه الرؤى إخبار الشاعر عن نفسه والإخبار عن هؤلاء المخدوعين الذين لوثوا طهر الجمال، وسحقوا الأزاهير، ثم رجع في حمى الهجير يلهث.. يبحث عن الحقيقة إلى أن وجدها.

فالقصيدة من النوع الموحد الموضوع وليس فيها استطراد يخرج عن هالته.



ما وراء النص:

قرأنا النص، وتذوقناه وفهمناه وحللناه، فهل هذا غاية في ذاته؟ أم وراء ذلك غاية أبعد؟ وما تلك الغاية؟

هل غاية الدراسة الأدبية أن تقول: ألفاظ فصيحة وتراكيب بليغة؟ معان عميقة، عاطفة حارة؟...

بل وراء ذلك الشاعر، وهذا ما يهمنا.



أنا أتساءل: هل هذا النص من الأدب الواقعي؟ بمعنى: هل مر الشاعر فعلاً بهذه التجربة التي يطرحها؟ وهل ذاق فعلاً مرارة هذه المعاناة؟.

الجواب: إن الأدب هو التعبير عن الحياة، أو هو التعبير عن لحظات وجدانية في الحياة، هذا التعريف للأدب هو التعريف الشائع للآداب الإنسانية، وهذا النص من الأدب الإيماني؛ إنه أدب يضيء النفس الإنسانية، أو يضيء لها الطريق لتصل إلى السعادة.

وراء هذا النص الشاعر، فهل نحكم بغيابه؟ هل نحكم بغياب صاحب النص إذا ملكنا النص؟ لقد عرفنا أن وراء هذا النص فكراً رائداً، أو قائداً يقود النفس البشرية إلى الحق والخير والحب والسلام، ولو أن هذا النص ترجم إلى الآداب العالمية فربما ساهم في تخفيف المعاناة عن الإنسان الذي أضناه البحث عن السعادة.



فماذا عن الشاعر صاحب هذا النص؟.

حضور الشاعر صاحب النص:

شاعر هذه القصيدة، من الأرض المباركة، ولد فيها، ودرج على أرضها، واستظل بسمائها، وتنسم هواءها وارتوى من مائها، وغذته من لبانها، وجبلته بطبيعتها، وأوحت إليه من وحيها..



وإذا سألته عن العوامل المؤثرة في شعره، فسيكون الجواب:

1- العقيدة الإسلامية.

2- الدراسات والعلوم.

3- قراءات ودراسات في الأدب والشعر.

4– البيئة والتاريخ.

5- السفر والتجوال.



فكيف نلغي الشاعر؟! ولماذا نلغيه؟ نلغيه لأنه قال النص؟ وهل نشر النص يقطع الحبل السُّري بين الشاعر وبين النص الذي قاله؟ في الغرب كثير من مشاهير الرجال من الزعماء وغيرهم، وكثير من الممثلين والممثلات لقطاء لا يعرف لهم أب، فهل تريد بعض المدارس الأدبية الغربية أن تلحق الشاعر أيضاً بمدرسة: (النسب المجهول) وتريد أن تصدر لنا نحن في الشرق الإسلامي هذه المدرسة؟ وإذا كان نشر النص قد أصبح ملكاً للأدب والتاريخ والنقد، فهل يعني هذا إلغاء صاحب النص كما تريد مدرسة البصل؛ التفكيكية؟ وكيف يدرس نص، إذا لم يوضع الشاعر قائل النص بالاعتبار؟



في دراساتنا الأكاديمية نبحث في الملابسات التاريخية للنص، ومنها البيئة التي كان الشاعر يسبح في بحرها كيف كونته، كيف صاغته كيف عجنته، كيف شكلته كيف احتضنته كيف رفضته لماذا أبعدته، ما المؤثرات الوراثية.. الكسبية.. الثقافية.. أصدقاؤه، خصومه لداته، محبوه.. أعداؤه.. ثقافة عصره، تأثره بها، خروجه عنها، عن المألوف فيها، ذاتيته التي تبلورت نفسه عليها، حضارة عصره، أعلامه..فالشاعر هو القطب، والدراسة تتناول صفات هذا القطب.



شاعرنا من أرض التين والزيتون، مهندس وشاعر، وهو ثر الإنتاج غزيره، وظفه للحرف المضيء والكلمة الطيبة المجنحة.

طرح فكرة آمن بها، وصدرها إلى الأدب العربي والإسلامي والعالمي، وهي فكرة أقلقت الفلسفة الغربية وأثْرت الفلسفة الإسلامية، نظر إليها الشاعر من خلال نظرة إيمانية شفافة.

فالشاعر حاضر حضوراً مفعماً بالتوقد، قدم نصه لوحة حضاري إيماني إنسانية، صاغها بأسلوبه المبدع، فجاء هذا النص النموذج في التنظير للنص المنشود.


[1] من ديوان: جراح على الدرب.

[2] الوطن في ضمير الشرفاء. بدر بن علي العبد القادر ط 1 ص 134.

[3] ديوان لحن الجراح. أحمد الخاني ط 1.


مُبهِرة غير متواجد حالياً
رد مع اقتباس
رسالة لكل زوار منتديات العبير

عزيزي الزائر أتمنى انك استفدت من الموضوع و لكن من اجل منتدى ارقي و ارقي برجاء عدم نقل الموضوع و يمكنك التسجيل معنا و المشاركة معنا و النقاش في كافه المواضيع الجاده اذا رغبت في ذلك فانا لا ادعوك للتسجيل بل ادعوك للإبداع معنا . للتسجيل اضغظ هنا .

قديم 08-01-2024, 12:00 AM   #2

الصورة الرمزية سايدي

 رقم العضوية :  140472
 تاريخ التسجيل :  16-09-2023
 المشاركات :  95
 الجـنـس :  أنثى
 عدد النقاط :  10
 قوة التقييم :  سايدي is on a distinguished road
 اخر مواضيع » سايدي
 تفاصيل مشاركات » سايدي
 أوسمة و جوائز » سايدي
 معلومات الاتصال بـ سايدي

افتراضي رد


مشكوور

سايدي غير متواجد حالياً
رد مع اقتباس
قديم 20-03-2024, 03:51 PM   #3

الصورة الرمزية عبد الله الساهر

 رقم العضوية :  1
 تاريخ التسجيل :  22-07-2004
 المشاركات :  76,159
 الدولة :  ムレ3乃乇乇尺
 الجـنـس :  ذكر
 العمر :  42
 عدد النقاط :  251196
 قوة التقييم :  عبد الله الساهر تم تعطيل التقييم
 SMS :

حتى لو اجتهدت و قطعت فؤادك.. ووضعته للناس في طبق فضي ليرضوا عنك لن تفلح وربما لن تصل لمستوى يرضيك أنت عن نفسك فاجتهد ليكون الله وحده راضياً عنك وأغمض عينيك عن ما سواه

 اخر مواضيع » عبد الله الساهر
 تفاصيل مشاركات » عبد الله الساهر
 أوسمة و جوائز » عبد الله الساهر
 معلومات الاتصال بـ عبد الله الساهر

افتراضي رد: السعادة في الشعر "قصيدة (مع الهجير)


اختيار راقي

الله يقويك كفيت ووفيت

توقيع :





رحمك الله يا أنس
وجعل الفردوس دارك ومستقرك



عبد الله الساهر غير متواجد حالياً
رد مع اقتباس
قديم 21-03-2024, 07:49 PM   #4


 تاريخ التسجيل :  21-03-2024
 المشاركات :  1
 الجـنـس :  ذكر
 عدد النقاط :  10
 قوة التقييم :  legit canadian pha is on a distinguished road
 اخر مواضيع » legit canadian pha
 تفاصيل مشاركات » legit canadian pha
 أوسمة و جوائز » legit canadian pha
 معلومات الاتصال بـ legit canadian pha

افتراضي رد


تسلم على الاختيار

legit canadian pha غير متواجد حالياً
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:01 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة لـ : منتديات العبير
المحتوى المنشور فى موقع العبير لايعبر بالضرورة عن وجهة نظر الإدارة وإنما يعبر عن وجهة نظر كاتبها